8.7.07

لهاث وراء الحياة.. وركون لـ عفطة العنز



هذه هي الدنيا.. ببساطة ولا أقل.. ليست أكثر من مجر ماء مالح آسن كلما شرب منه الضامئون ازدادوا عطشاً.. لا شئ يستطيع أن يشبع هذا اللهاث الحقير وراءها، مجرد عاهرة فاجرة لا تملك خلاً ولا صاحب
كثيرة مكدراتها، قليل ما يسعد فيها، والعجب كل العجب ممن يجري وراءها، كم تكسبنا شقاء وتعب ونصب، وفوق كل ذاك، لازلنا نلهث بأمل كريه بغية الحضوة بشئ من فتاتها
يالتعسها وبؤسها، كبرنا وكبرت آمالنا، وكبرت ذنوبنا والأخطاء، ولا أجمل من طفولة تشع براءة دون كدر
لازلت أتذكر.. حينما كانت أمي تحثنا للذهاب للمسجد لتعلم الصلاة، كم كانت سعيدة تلك اللحظات.. كانت أجمل ما مرت على ذاكرتي الخائنة، كنا صغاراً.. ولكن.. ملكنا قلوباً صفاء نافسنا بها نقاء الفرات.. مجرد أن نسمع صوت المؤذن الحاج محمد جعفر يحث سماعة المسجد لإعلان وقت الطاعة للمعبود، كانت أرواحنا مرحة بالكاد يمر ما يكدرها.. نركض أنا وأخي.. وخلفنا الشمس وقد أختفت وراء منزل الجيران..
نلف الحارة بيتاً بيتاً بسعادة غامرة، كلاً منا يحجز ركناً في المسجد لأداء صلاته، طاهرة أرواحنا.. لا تملك حقد ولا رجس ولا دنس، لابد وأن يمر ذاك الشعور الطاهر على أطفال اليوم، أتمنى ألف مرة لو أعيش لحظة من لحظاته، سأتلذذ به حتى الثمالة.. ولا شئ أروع
أتذكر جيداً ذلك الصبى العفيف.. لحظات مرت.. جل همي فيها أن لا يسبقني أحد في الطاعة.. يا إلهي.. مالذي جعل النفس هكذا... إلهي مالذي تغير... آآآه
جلست ذات مرة أبكي على قبر عمتي الطيبة.. كنت أملك 15 عاماً مليئة بالحكايات.. جلست أبكي بحرقة ليس حزناً على عمتي التي كنت فارقتها منذ شهرين.. لكن على تعاسة الدنيا وما احتوت.. لحظة لؤم من أحدهم تكفي لأن تجعلني أتنهد حتى الصباح.. أفكر كثيراً بمآلنا.. بما سيؤول له وضعنا.. كان الكبار حينها ينصحونني بعدم الغوص في تلك اللحظات لأنها حسب تعبيرهم أكبر من سني
لا أعلم.. لكني لم أملك إلا أن أعاند تلك الكذبة التي لم أصدقها يوماً.. لا شئ كبير.. ولا شئ أكبر من إرادة.. كنت أفهم الأمور وفق هذا التشخيص، إذ لن يكون شئ كبير طالما هناك من يركب الصعاب ويعتلونه..
جلست ذات ليلة كئيبة في المقبرة الموحشة حسب أهل القرية.. وحيداً.. والليل قارب على إنتصافه.. الناس تدثروا والصغار في آحلامهم.. إلا أنني كنت جالس بين قبرين عزيزين.. كنت أفكر بعمق كبير أعترف أنه كان أكبر مني.. ولكن لم أملك أن أتخلى عنه.. فكرت ليلتها بهدف الحياة.. ومصيرنا.. وحياتنا.. وما نملك أن نفعل وما يجب أن لا نفعل.. ساعتين كاملتين.. أكثر أو أقل بقليل.. قلبت منحى حياتي تماماً.. تكون لي شعور بعدها يرجف بدني بحق كلما يمر بي.. لا أستطيع وصفه.. ولكنه شعور أعتقدت أنه من الله!!-
لحضات عصيبة تمر علي كلما خالجني ذاك الشعور.. شئ من تعلق بالله وشئ لإنتهاء من الدنيا.. وزاوية لإستصغار الحياة.. وأخرى لتقزيم الآدميين وأنا منهم.. كلنا سواء لا شئ أكبر من شئ.. كلنا عيال الله.. بيد الله مآلنا وإليه المصير.. بيده دنيانا المحدودة.. الدنيا (الممر) ولا مستقر.. وماذا بعدها؟؟ لا نملك أنفسنا.. لا أحد يملك ذرة من جسمه.. جبناء ضعفاء.. جئنا من عدم ولو أراد الله لأحالنا لنسي منسيا
إذاً.. لماذا الغرور والظلم والإعتداد بالنفس.. لماذا الجحد والعصيان.. لماذا التمرد السلبي على أوامر المعبود.. لماذا ولماذا ولماذا؟؟ أسألة عصفت بذهني حينها وأحالتني لدمعة غزيرة بللت بها خداي الصغيران..
لم أستطع كتم الشعور الجميل والعذاب في آن واحد.. طلبت أحد الأساتذة يوماً.. جلست على عتبات قرب منزلهم أنتظره.. كنت للتوا خارجاً من المسجد.. حين رجع لمنزلهم ورآني جالساً أتاني يسألني مقصدي.. أردت أن أشرح له ما يخالجني ولكن دمعاتي لم تكتف بالنزول بل حولت صوتي لحشرجات لا تفهم.. ولو لم أبكي لا أعتقد أنني سأستطيع أن أشرح له..
وبعد السنون التي عقبت.. وبعد تجارب حلوة ومريرة في الحياة.. جلست مع مسؤولي بالعمل لأفاجأ بشدة انه يملك شعوراً مشابهاً.. وفي لحظة مصارحة على وقع رشفات شاي العامل سمير، كان يحدثني عما أسماه الحياة الزبالة.. وانتهاء لذائذ الدنيا.. لا لذة فيها والله لا لذة
كان يتحدث.. وكنت أتذكر كلام الأمير (عليه السلام)، (دنياكم هذه لا تساوي عندي عفطة عنز).. سلام الله على أبا الحسن.. دنيا بأبراجها المشيدة وبطواغيتها وفقراءها وكل ماتحمل لا تساوي لدى من عرف الله أن ترجع النز رجلها وتثير شئ من الرمال والغبرة..

3 comments:

شهيدة said...

جزاك الله كل خير أخي بحراني

ان كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام أبلغ ما قد يقال في وصف ما تقول وتحاول شرحه

وملاحظة صغيرة: أنا لا أوافق أن تظل مدونتك مختبئة في الظل فاسمح لي أن أضعها في قائمة أصدقائي المدونين اتفقنا

تحياتي

بحراني متمرد said...

لك ماشئت أيتها الشاهدة والشهيدة!!

يشرفني أن تضعي مدونتي لديك.. ولا أستطيع الرفض

شكراً على زيارتكِ الشهيدة كما أنتِ

تحية ود

كنكرية البحرين said...

مرحبا اخي بحراني ..

سعيدة بمروري في مدونتك ..

اما الحياة .. فلطالما سمعنا ونحن صغار أنها غدَارة .. وأعترف لك .. اني لم أكن افقة معنى العبارة .. إلا بعدما جرعتني الحياة من مرها ..

تحياتي